مقدمـــة:
يمكن الحديث عن أنواع عدة من المقاومة الأمازيغية في شمال أفريقيا إبان الاحتلال اللاتيني أو الغزو الروماني، فهناك المقاومة العسكرية التي اندلعت على أيدي كبار المقاومين الأمازيغيين المحنكين في ساحة المعارك والبطولات القتالية وهم: تاكفاريناس وماسينيسا وصيفاقس وأيديمون ويوغرطة وفيرمينا ويوبا الأول… والمقاومة الاجتماعية التي قام بها مجموعة من الفلاحين والبؤساء المعروفين بالدوّارين الذين كانوا يطوفون حول مخازن الحبوب بحثا عما يسد جوع بطونهم، والمقاومة الدينية التي تتمثل في ثورة أغسطينيوس الإنجيلية، وثورة دوناتوس التي استهدفت طرد الأرستقراطية الرومانية ومجموعة من رجال الدين الكاثوليك من بلاد تمازغا ، والمقاومة الثقافية التي ارتبطت بالملك المثقف يوبا الثاني الذي حارب الرومان بسلاح العلم والثقافة والفنون والآداب وتمدين البوادي والحواضر. ومن هنا، فقد اتخذ يوبا الثاني المقاربة الثقافية سبيلا لخلق نوع من الاستقرار الحضاري في الكثير من المناطق الأمازيغية.
وفي هذه الدراسة المتواضعة سيكون حديثنا عن المقاومة الثقافية من خلال النموذج الأمازيغي المتميز والبارز ألا وهو: الملك يوبا الثاني.
1- من هو يوبـــا الثاني؟
ولد يوبا أو جوبا الثاني في مملكة نوميديا، وهو ابن ملك يوبا الأول الذي قاوم الرومان مقاومة شرسة ووقف في وجه خصمين لدودين من أبناء تمازغا وهما: بوگود وبوكوس.
وبعد هزيمة يوبا الأول أمام القوات الرومانية، أسر يوليوس قيصر ابنه يوبا الثاني الذي كان طفلا صغيرا بين خمس وسبع سنوات فحمله إلى روما حيث نشأ في البلاط الفاخر وعاش في كنف الإمبراطور أغسطس خلف قيصر، فعلمه الفنون والآداب والعلوم وشؤون الحكم في مدارس ومعاهد روما وأثينا .
ونظرا لمكانة يوبا الثاني الثقافية وصدق ولائه وإخلاصه للإمبراطور الروماني أوغسطس Auguste، فقد أجلسه هذا الأخير على عرش موريطانيا الغربية نظرا لما قام به من خدمات جليلة لصالح شعبه. وبالتالي، حكم يوبا الثاني خمسين سنة في ظل الحماية الرومانية، ولم يضيع هذه السنوات إلا فيما يعود على شعبه الوفي بالخير والسؤدد والهناء. ويالتالي، ۥعرفت أيامه بالاستقرار والهدوء حتى توفي سنة23م، ليخلفه ابنه بطليموس الذي نهج سياسة أبيه في توحيد الأمازيغيين وتحقيق آمالهم وطموحاتهم.
وقد توطدت العلاقات الإدارية والشخصية بين يوبا الثاني وقياصرة روما حتى استصحبه ” كايوس قيصر، ولي عهد الإمبراطورية الرومانية… إلى الشرق وزوجه هناك من الأميرة كليوبترا (La princesse Cléopâtre) ابنة أنطون، وكليوبترا ملكة مصر”.
ومايلاحظ على شخصية يوبا الثاني أنها شخصية متميزة بموسوعيتها الفكرية والثقافية ، وذات خبرة في مجال السياسة والتدبير الإداري، بله عن نبل أخلاقها ووفائها وإيثارها التضحية من أجل الشعب ولمصلحة الشعب. ويقول محمد بوكبوط في هذا الصدد:” لعله من المفيد الإشارة إلى شخصية هذا الملك المتميزة، فعلاوة على أصله النوميدي الأمازيغي وتربيته الرومانية، فهو بونيقي بما ورثه مع قومه من حضارة قرطاج، وإغريقي بثقافته وذوقه الفني، ومصري بزواجه من ابنة كليوبترة ملكة مصر، كل هذه الجوانب روعيت بدون شك من طرف الإمبراطور عند اختيار يوبا لاعتلاء عرش موريطانيا.”.
وعلى الرغم من الازدهار الحضاري الذي عاشته تمازغا في عهد يوبا الثاني، فقد كانت هناك ثورات أمازيغية تطالب بالاستقلال والتحرر من قبضة الرومان؛ مما جعل بعض المؤرخين يعتبرون الأمازيغيين “مفطورين على قلة الولاء”، ولكنهم في الحقيقة مفطورون على الحرية والاستقلال والتخلص من الاستعمار الأجنبي المستغل.
و سيتعرض يوبا الثاني للاغتيال في أواخر حياته بعد أن عاش نصف قرن في كنف الرومان. ومن ثم، سيكون المغرب بعد وفاة يوبا الثاني تابعا للحكم الروماني مباشرة. وسيدخل الأمازيغيون المغاربة في مقاومة شرسة ضد القوات اللاتينية ستنتهي بطرد الرومان وحلول الوندال والبيزنطيين.
2- الإنجازات السياسية والإدارية والاقتصادية:
تمكن يوبا الثاني ومن بعده ابنه بطليموس من توحيد القبائل الموريتانية في إطار مملكة مورية واسعة الأطراف تنقسم إلى قسمين: موريطانيا القيصرية وموريطانيا الطنجية. ومن أهم المدن التي كانت تابعة ليوبا الثاني في 40 للميلاد نذكر: طنجيس وزيليس وليكسوس وسبتة وتمودة ووليلي وبناسة وتموسيط وتوكولوسيدا وبوماريا.
وستكون موريطانيا خاضعة للوصاية الرومانية على يد يوبا الثاني منذ 25 ق.م ، ويعني هذا أن يوبا الثاني الذي تربى في العاصمة الإيطالية سيكون حليفا للرومان وتابعا وفيا لهم وصنيعة في أيديهم. لذلك، سمحوا له بإدارة مملكة موريطانيا الطنجية أولا وموريطانيا القيصرية ثانيا.
وعلى أي حال، حكم يوبا الثاني موريطانيا سواء الطنجية أم القيصرية ” تحت مراقبة روما وبالنيابة عنها طوال الفترة بين 25 و23 قبل الميلاد قام خلالها بتمهيد السبيل أمام الحكم الروماني.”
وعليه، فأول ما قام به يوبا الثاني بمساعدة ابنه بطليموس الذي كان يتولى شؤون القيادة العسكرية هو العمل على توحيد القبائل الأمازيغية في المغرب، فتمدين مملكته حضاريا وثقافيا وعلميا، ثم تزيينها عمرانيا وهندسيا بالإستيتيقا(الجمالية) اليونانية والرومانية والقرطاجنية والأمازيغية في إطار وحدة تنصهر فيها جميع هذه الملامح الموروثة . وبعد ذلك، اتخذ يوبا الثاني عاصمتين لمنطقة نفوذه ” شرشال” في الجزائر التي سماها بالـ” قيصرية” إرضاء للروم ولإمبراطورها قيصر ، فأمر يوبا الثاني رعاياه الأوفياء بتقديس القيصر بصورة رسمية ، كما جعل من “وليلي” عاصمة له في المغرب كما يعتقد كاركوبينو .
هذا، وأنشأ يوبا الثاني في عاصمتيه” شرشال” و” وليلي” حكما ديمقراطيا نيابيا تمثيليا، إذ طالب بتكوين مجلس بلدي يتم انتخاب أعضائه من بين المواطنين الأحرار ، ويتولى كل مجلس تسيير أمور المدينة على غرار المدينة الرومانية.
بالإضافة إلى الجانب الإداري، فقد حقق عصر يوبا الثاني طفرة اقتصادية متنوعة وازدهارا تجاريا كبيرا ؛ لأنه شجع الزراعة والصناعة والتجارة. وأقام مشاريع صناعية كبرى في عدة مدن كصناعة الأصباغ الأرجوانية وتمليح السمك وصنع الكاروم (Garum) وهو مرق مصنوع من السمك يستعمل عوض التوابل لطهي الطعام ( يشبه كنورالسمك حاليا)، ويستعمل كذلك دواء في الاستشفاء من بعض الأمراض.
وفي الحقيقة ، تميزت أيام يوبا الثاني (25 ق.م-33 بعد الميلاد) بالازدهار الاقتصادي في جميع المجالات وعلى جميع المستويات والأصعدة والقطاعات. وبطبيعة الحال، سيكون عصر يوبا الثاني عصر الرخاء الاقتصادي والتطور التجاري وتحسن الأحوال الاجتماعية وانتعاش النهضة الفكرية والثقافية.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان يوبا الثاني يهتم بتجميل الحواضر وتزيينها على غرار الحواضر الرومانية تقليدا بفن عمارتها وهندسة مبانيها وجمال مدنها كما يقول المؤرخون “خاصة عاصمتيه أيول( شرشال القيصرية) وأوليلي، مما يعكس ذوقه ومدى الرخاء الذي شهدته مملكته، فضلا عما يمكن استنتاجه من كون تشجيع الحياة الحضرية يدخل في إطار السياسة الرومانية الرامية إلى تدجين الأمازيغيين.
وۥيعرف على يوبا الثاني أنه كان مولعا بالعمارة الجميلة وزخارفها الفسيفسائية الباهرة،كما كان ميالا إلى الفنون الهندسية، ووضع التصاميم العمرانية الفنية الدقيقة. وتعد مدينة شرشال آية في الفن العمراني الجميل وقد سماها بالقيصرية ( Cesarea ) على غرار اسم القيصر اعترافا له بالجميل والثناء العميم . و” جلب لعاصمته ( شرشال) مختلف الفنانين من مصر واليونان، فشيدوا فيها من القصور الجميلة والهياكل الفخمة ماجعلها بحق محط أنظار الملوك والأمراء، كما جلب لها عددا من الكتاب والشعراء والفلاسفة”.
وإذا أردنا معرفة طبيعة هندسة المدينة في عهد يوبا الثاني فقد كانت ممزوجة بالعمارة اليونانية والنحت الروماني ومتأثرة بالهندسة الفينيقية القرطاجنية، وتطبعها الروح الأمازيغية الثورية المبنية على الفروسية والمقاومة.
وهكذا، فقد كانت المدينة البربرية :” محاطة بالأسوار والأبراج، وبداخلها فوروم forum أي ميدان عمومي، وكابيطول capitole أي معبد، وقوس النصر تعلوه عربة تجرها ستة خيول، وكانت بها كذلك خزائن لحفظ الكتب وتماثيل الآلهة، وفسقيات وحمامات عمومية مفروشة أرضها بالرخام ومغطاة جدرانها بالفسيفساء المصورة لمناظر من الطبيعة ومشاهد من الحياة. أما المدينة نفسها فكانت مقسمة إلى قسمين: أحدهما في الجنوب تجمعت فيه المصانع والمخابز ومعاصر الزيت والدكاكين والدور الشعبية، والثاني في الشمال يسكنه الأغنياء والحكام.
ومازالت بعض الآثار الباقية في وليلي شاهدة على ماكانت عليه هذه المدينة، حيث كشف النقاب عن بعض الشوارع والمنازل والمعاصر، وعن قاعة الاجتماعات والساحة العمومية التي كانت تعتبر المكان المحوري في المدينة، وعن بعض التحف كتمثال برونزي لكلب وآخر لغلام ورأس مرمي وتمثالين نصفيين لبروتوس ولبعض الأمراء”.