لقد ارتفعت في الآونة الأخيرة، و بشكل غير مسبوق، بعض الأصوات على قلتها و المنتمية بشكل خاص إلى صف الحركة الأمازيغية، مطالبة بضرورة تمكين منطقة الريف من نظام الحكم الذاتي، و ذلك على غرار ما اقترح تنفيذه بمنطقة الصحراء من طرف الدولة، و قد شاهدنا بعضا من مناضليها الشباب بمدينة الناظور و هم يحملون في احتفالية فاتح ماي الماضي لافتة كتب عليها " الحركة الثقافية الأمازيغية بشمال المغرب تطالب بالحكم الذاتي بالريف "، حيث تعد هذه هي المرة الأولى التي ترفع فيها مثل هذه اللافتة بالمنطقة.
و للتذكير، فمنذ ما يقارب سبع سنوات تم إبراز هذا المطلب و بشكل قوي لدى مكونات الحركة الأمازيغية، إثر البيان الذي أصدره الكونغريس العالمي الأمازيغي سنة 2002، الذي استورد الفكرة من منطقة القبايل بالجزائر، غداة انتفاضتها الشعبية ضد الميز الممارس من طرف النظام الجزائري ضد الأمازيغ و الأمازيغية،علما أن هذا المطلب لم يكن أبدا مطلبا أصيلا لدى الحركة الأمازيغية بالمغرب و لا لدى أي مكون من مكونات الحركات الإجتماعية بالمنطقة، و لم يحدث بشأنه أي حوار بمنطقة الريف قبل هذا التاريخ.
و خلال الثلاث سنوات المنصرمة، تم طرح الموضوع بشكل متسارع، عار من التفاصيل و التناول الدقيق، من لدن عدد من الفعاليات و التنظيمات الأمازيغية و اليسارية بالمنطقة، بشكل طغت عليه الهشاشة و عدم وضوح على مستوى التبريرات المقدمة، و هو ما زكاه إلى جانب ذلك، الغياب التام لأي نقاش سياسي و موضوعي وازن بين مختلف الفاعلين حوله، بما يمكن أن يساهم في الدفع به إلى مستوى أرقى و أعمق .
هل هناك أسس تاريخية لهذا المطلب؟
يذهب كثير من المطالبين بالحكم الذاتي بالريف، إلى أن لهذا المطلب جذورا تاريخية يستند عليها و يستمد منها شرعية وجوده، على رأسها جمهورية الريف و انتفاضة 1959-1958، اللتان يعتقد – حسب هؤلاء المطالبين - على أنهما قد عبرتا في لحظة تاريخية معينة و بشكل مباشر عن رغبة الريفيين في تدبير شؤون المنطقة بأنفسهم، بعيدا عن كافة أشكال الوصاية سواء المخزنية أو الأجنبية.
إن جمهورية الريف لم تكن أبدا في يوم من الأيام مبنية على الجهوية أو العرقية أو القبلية، عكس ما يتم الترويج له، بل انخرطت في صفوفها قبائل عديدة من خارج المنطقة المحتلة من طرف الدولة الإسبانية، حيث خاضت متحدة و متكتلة حربا ضروسا ضد الآلة الاستعمارية الأجنبية، مخترقة بذلك منطقة نفوذ الاحتلال الفرنسي إلى أن وصلت إلى حدود مدينة فاس، كما أن منطقة قلعية و التي تشكل اليوم جزءا كبيرا من إقليم الناظور لم تكن في يوم ما جزءا من هذه الجمهورية التي تشكلت في مرحلة معينة من قبائل الريف الأوسط و قبائل غمارة و ضمت جزءا بسيطا من جبالة.
كما أن نشيد هذه الجمهورية قد كان باللغة العربية الفصحى من تأليف الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، و هي كلها إشارات واضحة و قوية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك على غياب أية أفكار تمييزية أو عنصرية ضد باقي المغاربة و مميزة لمنطقة الريف عن باقي المناطق، بل يمكن القول أكثر من ذلك أن جمهورية الريف قد انطلقت على المستوى التنظيمي من الجهوية في اتجاه المركزية، محاولة تحرير كافة التراب المغربي.
أما بخصوص انتفاضة الريف سنة 1958-1959، و التي يستند إليها في كثير من الأحيان للحديث عن تاريخية مطلب الحكم الذاتي، فإن حيثياتها ما تزال غير معروفة حتى على مستوى البحث التأريخي لسبب بسيط، و هو غياب الوثائق الرسمية و الشهادات الحية حولها، مما يؤجل النقاش بخصوصها إلى غاية الكشف عنها، و ما توفر منها ـ من نصوص و وثائق و شهادات سطحية لا يمكن الجزم بصحتهاـ لا يوحي أبدا بأن الريفيين المنتفضين كانوا يطمحون إلى إقرار شكل من أشكال التسيير الذاتي للمنطقة.
لذلك، فمن الواضح أن فكرة الحكم الذاتي بالريف لا تجد لها أي سند تاريخي، عكس ما يراد له أن يكون من طرف جل مروجي هذا الطرح، و حتى مع وجوده، افتراضا، فإن الاستناد إليه و القياس على الشروط السياسية والتاريخية التي أنتجت ذاك المطلب في حينه، يعتبر من الأمور اللامعقولة و اللامقبولة في نفس الآن، حيث أن احتياجات المواطنين و الظروف السياسية الحالية قد تفرض شروطا أخرى قد تغير من طموحاتهم و تطلعاتهم.
الإمكانيات الذاتية لمنطقة الريف
إن منطقة الريف قد عانت من ويلات الإقصاء و التمييز العنصري و التهميش الممنهج الذي مورس عليها من طرف مسؤولي الدولة منذ فجر الاستقلال، مما أدى إلى إبراز عدد من الظواهر السلبية بالمنطقة وفي مقدمتها : الهجرة التي أدت بشكل كبير إلى استنزاف الرأسمال البشري و ما رافق ذلك من تدمير للبنية الفلاحية بالمنطقة، و كذا ظاهرة إنتاج و تهريب المخدرات خارج وضعها القانوني ، إلى جانب التهريب المعيشي الذي تعرفه الحدود والذي بدأ بدوره يتدهور خلال السنوات القليلة الأخيرة مما سيؤثر سلبا على الكثير من العائلات المنتفعة بهذا القطاع.
فالريف يفتقر إلى الحد الأدنى من البنيات الاقتصادية و الصحية و الاجتماعية و الثقافية لتدبير شؤونه، فالمنطقة تعتبر ذات إنتاج فلاحي جد ضعيف و الخدمات الاجتماعية بما فيها الصحية جد متدهورة ، كما أن الثروة السمكية قد تم استنزافها من طرف مافيا البحار، أما هؤلا ء المتشدقين بكون عائدات البنوك في الريف تعد هي الثانية على المستوى الوطني، فإنهم بذلك يضعون أنفسهم ، بوعيأو بدونه ، في موقع الدفاع عن التهريب الدولي للمخدرات، حيث أن الغالبية العظمى من الودائع البنكية بالريف هي لبارونات و تجار المخدرات، فهل يعقل أن نبني نظام تسيير ذاتي بهذه الأموال؟
و كما هو في علم أهل الريف ، فإن المنطقة تعيش تحت رحمة لوبيات الفساد الإدراي و العقار و المخدرات المتواطئة و المتشابكة فيما بينها، وهي تجهد نفسها لفرض قيام واستمرار مصالحها بالمنطقة و تطويرها و المحافظة عليها بكافة الأشكال، و لذا وجدناها ممثلة في البرلمان بغرفتيه و في مختلف المجالس المنتخبة على المستوى المحلي و الإقليمي، متحكمة في دواليب العديد من الإدارات بما فيها الأمنية.
إن فشل أبناء المنطقة في تدبير الشأن المحلي عبر المجالس المنتخبة و التي تسطير عليها لوبيات الفساد، لدليل قاطع على فقدان الريف للنخبة التي يمكن أن يوكل إليها أمر تسيير المنطقة في حالة ما إذا تم إقرار نظام الحكم الذاتي فوق ترابها، وهذا الوضع يكشف بجلاء مدى القوة والهيمنة اللتان تتمتع بهما تلك اللوبيات التي ستضع ، إن تحقق هذا الحلم ، كل الأمور تحت سطرتها وتصرفها بشكل مضاعف لما هي عليه الآن ، و هو ما سيؤدي بالضرورة إلى إستفحال الفساد و تحويل الريف إلى مرتع لكل أصناف الجرائم .
مطلب في غير وقته
إن الدعوة و النضال لأجل إقرار نظام الحكم الذاتي بمنطقة الريف، أمر بديهي ومشروع ، لكن قبل تضخيم المطالبة ، لا بد من المرور عبر مجموعة من المداخل المنهجية الضرورية، لضمان الانتقال من مرحلة التنظير على ضوء خصوصيات و احتياجات منطقة الريف ، إلى المرحلة المتقدمة في البحث عن السبل وآليات تصريف المطالبة به وإقراره على أرض الواقع ، في حال إثبات إحتياج المنطقة له بعيدا أن أي تقديس للمطلب.
كما أن الوضع السياسي الذي يمر به المغرب حاليا يعتبر جد حساس بسبب ملف الصحراء، و أن أي ربط للمطالبة بالحكم الذاتي بالريف بهذا الملف في هذه الفترة الحرجة بالذات ، يعد أمرا غير جدي، لأنه من جهة ، يعبر عن نية في ابتزاز الدولة من زاويته السلبية، و من جهة أخرى ، يفيد بأن النضال من أجل الحكم الذاتي بالريف من طرف الداعين له ذو طابع موسمي و ليس مطلبا مبدئيا، و هو ما سيدفع بالمتربصين بمنطقة الريف إلى خلق البلبلة على المسار النضالي للريفيين باتهامهم بالتشويش على ملف الصحراء في أحسن الأحوال، و هو ما لا يخدم قضايا الريف الحيوية في شيء.
ناهيك عما أفرزته هذه المطالبة اليوم من منافسة وتباري نحو احتكار الزعامة والسبق في إعلان مطلب الحكم الذاتي، كما هو حاصل الآن، خاصة بين لوبي" الرباط " و لوبي " إسبانيا " بما يرافق ذلك من صراع و تطاحن خفي تارة و علني تارة أخرى ، بسبب تناقض النوايا و المصالح والأهداف ، وهو ما يعكس صورة و انطباعا سيئا عما ستؤول إليه هذه المطالبة نظرا لتشتت و ضعف قوى"المجتمع المدني" المحلي، الذي يقحم جزء منه ، بوعي أو بدونه ، في هذا التنافس الشرس ، خدمة مصالح هذا الطرف أوذاك ، و هو ما سيؤثر سلبا على القوة المطلبية الحقيقية للريفين سواء في المدى المنظور أو البعيد .
إن ملف الحكم الذاتي بالريف، في نظرنا، يحتاج لفرصة جماعية للنقاش الجماعي الجاد والهادئ لغاية اختمار الفكرة و نضجها في سياق شروطها الذاتية و الموضوعية والمجتمعية العامة ، و هو ما يتطلب بالأساس الابتعاد عن مختلف أشكال الاندفاعات و الهرولة و مختلف أشكال الابتزاز السياسي.
خـتـامـا
أتمنى أن أكون قد أسهمت برأيي البسيط هذا في إغناء النقاش حول الموضوع، و أن أكون قد توفقت في تبليغ منظوري للأمر، و الذي أعبر عنه غيرة مني على مصلحة منطقتنا، و ليس رغبة مني في كبح جماح أي كان أو التشويش على أي مسار فعلي أو مفترض