2- أسباب ظهور مقاومة محمد الشريف أمزيان:
ماكانت مقاومة محمد الشريف أمزيان لتظهر إلى الوجود لو لم يكن هناك ما يؤرق بال الريفيين ويثير ضمائرهم ويقلق راحتهم؛ لأن الريفيين في شمال المغرب الأقصى كانوا لايرضون بالذل والخزي والعار، وكانت أنفتهم وكرامتهم فوق كل شيء، يمكن لهم أن يفعلوا الكثير من أجل الدفاع عن حريتهم و صون شرفهم و حماية عرضهم.
ومن الأسباب التي أشعلت سعير مقاومة محمد الشريف أمزيان ظهور بوحمارة في منطقة الريف الذي ادعى أنه المولاي محمد بن السلطان الحسن الأول. وبذلك، خرج عن طاعة السلطان مولاي عبد العزيز، وكبد قوات المغرب آنذاك خسائر مادية وبشرية كانت من العوامل غير المباشرة لدخول المستعمر الأجنبي إلى المغرب وفرض حماية 1912م.
وقد ساهمت ثورة بوحمارة في نشر الفساد والرعب والعبث بمصالح الناس وحريمهم وقتل الأبرياء وانتهاك أعراض الناس بدون حق شرعي، وساهم في انتشار الخيانة والغدر، وسمح لجيشه أن يفعل مايشاء في منطقة الريف بدون حسيب ولا رقيب.
ولكن الشريف لم يرض بهذا الوضع المأساوي المقيت، فوحد القبائل القلعية والريفية لمواجهة هذا القادم اللعين . ومن ثم، أعلن الشريف في الأسواق اليومية والأسبوعية وعبر المشاعل التي توقد فوق الجبال اندلاع المقاومة للقضاء على بوحمارة وجيشه المغتصب الذي دوخ الجيش الحكومي منذ سنة 1902م إلى أن تولى مولاي عبد الحفيظ الحكم و تكليف القائد الناجم الأخصاصي لمقاتلته والقبض عليه.
والسبب الثاني الذي أشعل ثورة الشريف أمزيان هو رغبة إسبانيا في مد سكة حديدية وبناء مجموعة من الجسور والقناطر تمتد من مشارف مليلية إلى بلدة أزغنغان على مسافة 20 كيلومترا، وذلك في 9 يوليوز 1907م ، والغرض من كل هذا هو الوصول إلى مناجم الحديد الموجودة بمنطقة أفرا ووكسان، بعد أن باع بوحمارة منجم وكسان لشركة إسپانية ومنجم إحرشاون لشركة فرنسية لمدة تسعة وتسعين سنة مقابل خمسة ملايين من البسيطات، وكان جنود بوحمارة هم الذين يحرسون العمال الذين يشتغلون في هذين المنجمين.
لكن محمد الشريف أمزيان - بعد أن استشار السلطان المولاي عبد الحفيظ - لم يسمح للقوات الغازية تحت قيادة حاكم مليلية الجنرال مارينا باستغلال المنجمين. فأرسل الجنرال العمال للشروع في بناء القناطر والجسور تمهيدا لوضع السكة فواجههم المجاهدون، فأعلن الجنرال مارينا حربه الشنعاء على الريفيين وقائدهم المقاوم البطل محمد الشريف أمزيان.
هذا، وقد أشعل دخول مارينا إلى الناظور فتيل مجموعة من المعارك التي ستكبد الجيش المحتل خسائر عدة في العتاد والمال ، وستحصد الكثير من الأرواح البشرية من قتلى وجرحى وجمعا من الضباط والقواد والجنرالات وأصحاب الرتب العليا في الجندية والقيادة العسكرية.
وعليه، فلم تندلع شرارة مقاومة محمد الشريف أمزيان إلا لسببين رئيسيين ألا وهما: فتنة بوحمارة، وغزو الجيش الإسباني لمنطقة الريف من أجل السيطرة على مناجم الحديد بمنطقة بني بويفرور. وهناك من يضيف سببا ثالثا لظهور مقاومة الشريف يتمثل في جبهة أصدقاء إسبانيا ( Amigos De España) التي جمعت المتعاونين مع الاستعمار وخونة القضية الريفية، وكان الشريف يحارب هؤلاء ويجاهد فيهم للحد من شوكتهم، وكانت هذه الجبهة هي التي قامت باغتيال قائد المقاومة الريفية محمد الشريف أمزيان على يد السارجان القائد محمد حسني التابع لفرقة الريگولاريس تحت إمارة الكابورال كونثالو ساوكو Gonzalo Sauco .
3- تطور مقاومة محمد أشريف أمزيان:
عرفت مقاومة محمد الشريف أمزيان في سنوات العقد الأول من القرن العشرين وبالضبط مابين 1909م و1912م مرحلتين أساسيتين: مرحلة مجابهة ثورة بوحمارة والتي انتهت بطرد بوحمارة من سلوان، والمرحلة الثانية التي انتهت باستشهاد الشريف أمزيان بعد أن كبد المستعمر الإسباني خسائر مادية ومالية وبشرية أثارت الرأي الأيبيري لمدة طويلة وأشار إليها المؤرخون الإسبان والأجانب على حد سواء.
أ- مقاومة الشريف أمزيان لبوحمارة:
عرف المغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي أوضاعا متردية على جميع المستويات منذ مولاي عبد الرحمن بعد هزيمتي إيسلي وهزيمة تطوان، فأصبح المغرب خاضعا لإملاءات الدول الأجنبية وضغوطاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية. وصار المغرب بعد ذلك يعرف تقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية ، وكثرت الفتن وارتفعت الأسعار وتهرب الناس من دفع الضرائب الشرعية وغير الشرعية على الرغم من الإصلاحات التي قام بها مولاي الحسن الأول من النواحي المالية والإدارية والتربوية والعسكرية. لكن ظروف المغرب ستزداد تأزما مع تولية مولاي عبد العزيز الذي تولى الحكم بعد وفاة أبيه الحسن الأول، وقد تولى شؤون الدولة وتسيير دواليب الحكم وعمره لايتجاوز 22 عاما. وقد واجه في عهده عدة مشاكل داخلية وخارجية، وعجز عن حلها بسبب حدود تجربته المتواضعة في الحكم وقصور خبرته في مجال التسيس وتدبير شؤون الأمة. وقد اضطر للتوقيع على مقررات الجزيرة الخضراء سنة 1906م؛ مما ولد القطيعة بينه وبين الرعية.
وقد أدى ضعف مولاي عبد العزيز وسجنه لأخيه محمد بن الحسن الأول إلى ظهور بوحمارة الذي استغل الظروف التي كانت تمر بها الدولة المغربية لصالحه من أجل السيطرة على الحكم بعد أن ادعى أنه هو محمد بن الحسن الأول الوريث الشرعي للسلطان بدلا من مولاي عبد العزيز.
والمقصود بهذا الفتان الدعي هو الجيلالي بن إدريس الزرهوني الملقب ببوحمارة وأيضا بالروكي ينتمي إلى قبيلة أولاد يوسف التي تستقر بزرهون.عمل الروكي في السلك المخزني مدة طويلة، وسجنه أبا أحماد مع المنبهي لمشاركته في مؤامرة على مولاي عبد العزيز. وبعد خروجه من السجن، مكث فترة في الجزائر ، ومنها رجع قاصدا تازة التي اتخذها عاصمة له، فبايعته القبائل الواقعة بين فاس وتازة، وانضمت إلى دعوته كافة قبائل المغرب الشرقي والريف، واستولى على قصبة فرخانة ووجدة واتخذ سلوان عاصمة لحكمه، وكان على اتصال مباشر مع السلطات الإسبانية في مليلية ، ومع السلطات الفرنسية في الجزائر التي كانت تمده بالأسلحة والعتاد والأموال ويتسلمها بقرية أركمان بالناظور. وقد ألحق هزائم متتالية بجيش المولى عبد العزيز مستفيدا من الدعم الإسباني والفرنسي على حد سواء.
وبناء على ما سبق ذكره، فقد انطلقت ثورة بوحمارة سنة 1902م من العاصمة فاس ليؤلب قلوب الناس على السلطان مولاي عبد العزيز، وبعد ذلك اتجه إلى تازة التي اتخذها عاصمة لحكمه، وفي تلك الفترة واجه الجيش الحكومي في عدة معارك انتصر فيها بوحمارة، وكبد الجيش السلطاني خسائر مادية كبيرة، فأثرت هذه الخسائر سلبا على المجتمع المغربي وهيبته الخارجية وسيادته الداخلية. واستقطب بوحمارة معظم القبائل التي توجد في وسط المغرب وشماله وشرقه؛ بسبب إحساس الشعب بالظلم من جراء السياسة الجائرة التي كان يتبعها المقربون من السلطان مولاي عبد العزيز. ومن المعلوم أن هذه السياسة كانت تقوم على الإفقار والتجويع وفرض الضرائب الشرعية وغير الشرعية على المواطنين الفقراء الذين لايستطيعون تحملها، وكل ذلك من أجل تمويل السلطان لحملاته العسكرية التي كانت تستهدف إخماد ثورة الفتان؛ مما سيضطر السلطان مولاي عبد العزيز إلى الاقتراض من فرنسا، و سيدفع هذا الاقتراض المغرب إلى تقديم مجموعة من التنازلات والقبول بسياسة الحماية الأجنبية على المغرب في مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906م.
وقد راقب السلطان ثورة بوحمارة جيدا وتتبعها عن كثب، وتوصل إلى أن هذه الثورة كانت تحركها الأيدي الفرنسية بالجزائر تمهيدا لاحتلال المغرب، لذلك كتب السلطان مولاي عبد العزيز رسالة موجهة لقبائل بني مالك في يوليوز 1905م يقول فيها:" تحركت الإيالة الجزائرية لاقتراح أمور تضر برعيتنا الشريفة، واستمر طموحها للحوادث المخوفة، وتشوفت غاية التشوف إلى مديد الترامي على المسلمين وحددت شوكتها للاستيلاء على قوة الدين...
إن بوحمارة إنما يروج بتروجهم وإغرائهم وأنهم هم الممدون له ليحصلوا على قصدهم ورجائهم، ويتوصلوا به لتفريق كلمة الرعية.... وصارت الإيالة الجزائرية تمده بما يتقوى به قولا وفعلا، وتصدرت لإغراء القبائل على متابعته عمدا لا جهلا، وأخذت في تحريك الأسباب التي يترتب عليها في الرعية الانحلال والاضطراب.
ولازلنا نتحمل مالا يطاق من وجوه المدافعة... ولو اطلع المسلمون على مايلحق المخزن في ذلك لتسارعوا لإعانته برقابهم وأولادهم...ولخرجوا عما يملكونه رغبة في الإنقاذ من الخطب العظيم...لأن حفظ الرعية لايدوم إلا بالقوة الإسلامية وتلك القوة لاتنضبط للمخزن إلا بالاستعداد التام الذي يصان به النظام وتنفذ به الأحكام. ووسائل الاستعداد لاتتوفر إلا بالإعانة الجارية من الرعية والجباية."
وتبين لنا هذه الرسالة العزيزية مدى التأثير السلبي الذي تركته فتنة بوحمارة على خزينة المغرب وماليته التي استنزفتها الحملات العسكرية؛ مما جعل السلطان يستعجل القبائل المغربية لمساعدته جبائيا و ماليا وبشريا.
واشتدت فتنة بوحمارة قوة وتمركزا في مناطق تازة مرورا بمدينة وجدة ونزولا بمنطقة الريف، حيث اتخذ بوحمارة قصبة سلوان التي بناها المولاي إسماعيل سنة 1678م عاصمة لحكمه، كما سيطر على قصبة فرخانة لحماية مصالح الإسپان بعد معركة سيدي ورياش سنة1894م.
وبعد أن تقربت قبائل قلعية والريف من بوحمارة الذي كان يدعي النسب الشريف والسلطة الشرعية ويتخذ الزهد والتصوف مطية لتخدير الناس، تفطن محمد الشريف أمزيان إلى مكره ودهائه ففضحه بين الناس وطالب الريفيين بمقاومته. بيد أن الريفيين في البداية لم يحركوا ساكنا ، بل ناصروه ونافحوا عنه وقربوه وصاهروه كالقائد البويفروري الحاج محمد بن شلال، فوجد بوحمارة مأمنه بين الريفيين ويقول جيرمان عياش في هذا الصدد بأن الريف الشرقي هو الذي وجد بوحمارة فيه" أنصاره الأشد تحمسا، وفيه وجد الموارد والرجال... وفيه تمكن من إنشاء قاعدة لمخزنه".
وكان من نتائج هذا التحريض من قبل الشريف، أن اتجه بوحمارة بجيشه إلى أزغنغان للتخلص منه ، ولما لم يجده بمنزله، سرق كل محتوياته، وعاد خائبا إلى سلوان بعد أن علم بفرار الشريف إلى قبائل الريف للاحتماء بها. وبعد ذلك، قصد الشريف مليلية لاجئا، ولم يخرج من منفاه إلا بعد هزيمة العبد القائد المساعد الأيمن لبوحمارة في معركة إمزورن أمام المجاهدين الريفيين