مقدمة: أين وصلت عملية معيرة اللغة الأمازيغية وتوحيدها؟ ماذا أنجز المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية حول هذا الموضوع؟ ما الجديد الذي أصدره بعد الكتاب الثلاثي للسنة الأولى؟ هل هناك تقدم في أعمال المعهد في ما يخص معيرة وتوحيد الأمازيغية؟ هل لديه تصور واضح للإشكالية مع تحديد دقيق للمراحل والخطوات والوسائل؟
هذه الأسئلة التي أثير بعض منها منذ الشروع في تدريس الأمازيغية مع الموسم الدراسي 2003 ـ 2004، وخصوصا بعد صدور كتاب السنة الأولى في ثلاثة صيغ تبعا للفروع الثلاثة للأمازيغية، والذي فتح نقاشا واسعا حول تصور المعهد وإستراتيجيته المتبعة في معيرة اللغة الأمازيغية وتوحيدها، سرعان ما خَبت واختفت نهائيا من النقاش الدائر حول المعهد، لاسيما بعد الانسحاب الجماعي لسبعة أعضاء من مجلسه الإداري، والذي (الانسحاب) أبعد النقاش والأسئلة عن موضوع توحيد الأمازيغية ومعيرتها، وحوّلها إلى قضايا أخرى تتصل طبعا بالمعهد.
لنذكّر أن موقف المعهد، عكس منتقديه الذين يطالبون بتدريس أمازيغية واحدة وموحدة هنا والآن بدل تدريس ثلاث لهجات بإصدار ثلاثة كتب لذلك، يتلخص في أن معيرة وتوحيد الأمازيغية عملية تنجز على مراحل وبشكل متدرّج، حتى لا تكون هناك قطيعة نهائية مع لغة الأم بخلق لغة "فصحى" غريبة عن الأمازيغية المعروفة والمتداولة. ولهذا كان لابد من الانطلاق في البداية من لغة الأم التي يعرفها التلميذ ويتحدثها الناس، ثم السير تدريجيا نحو التوحيد على مراحل، وهو ما يسميه المختصون بالمعهد بـ Convergence.
وهذا هو الموقف الصائب والسليم الذي يخدم اللغة الأمازيغية ويحافظ عليها كلغة حية ومستعملة في التواصل اليومي، لا لغة نخبة وكتابة فقط، كما هو شأن اللغة العربية الفصحى. ولهذا أيدنا هذا الموقف ودافعنا عنه رغم تحفظنا من تركيز المعهد على الجانب المعجمي في عملية التوحيد.
كتاب السنة الأولى ومبدأ التوحيد المتدرج: وهكذا صدر الكتاب المدرسي الأول في ثلاثة صيغ (كتب) حسب عدد الفروع الثلاثة للأمازيغية (فرع الريف، الأطلس، سوس). ورغم أننا أمام ثلاثة كتب من الناحية العددية، إلا أن مضامينها موحدة بأكثر من 70%، مع اختلاف، طبعا، في الأدوات النحوية والتركيبية أولا والمفردات المعجمية ثانيا. لكن كل شيء في هذه الكتاب/الكتب يؤكد أن هناك سيرا متدرجا في اتجاه المعيرة والتوحيد.
وإذا كان الكتاب المدرسي للسنة الأولى يتضمن هذه النسبة الهامة والملموسة من التدرج على مستوى توحيد الأمازيغية، فمعنى ذلك أن حضور هذا التدرج، في كتاب السنة الثانية، سيكون أقوى وأكبر مما احتوى عليه كتاب السنة الأولى، كما سيكون حضوره بكتاب السنة الثالثة أقوى وأكبر مما كان عليه في كتاب السنة الثانية، وهكذا ترتفع نسبة التوحيد كل سنة، ومع كل مستوى، إلى أن نصل إلى المستوى الذي يقرر فيه كتاب واحد وبلغة معيارية واحدة. هذا التقدم في توحيد الأمازيغية من مستوى إلى الذي يليه هو ما يشكل مضمون مفهوم التوحيد المتدرج للأمازيغية انطلاقا من فروعها الثلاثة convergence، والذي أعلن المعهد أنه يطبقه في تعاطيه مع عملية معيرة وتوحيد الأمازيغية.
كتاب السنة الثانية والتراجع نحو التلهيج: لكن عندما نطلع على كتاب السنة الثانية ونقرأه من أوله إلى آخره، نصاب بخيبة أمل كبيرة إذ نكتشف أن هذا الكتاب المدرسي الثاني، لا يحتوي على أي تقدم، تطبيقا لمفهوم التوحيد المتدرج، مقارنة مع كتاب المستوى الأول. بل يسجل تراجعا حقيقيا وواضحا على مستوى التوحيد المتدرج الذي لاحظناه في الكتاب الأول. وهذه بعض مظاهر هذا التراجع:
1 ـ فرغم أن "الكفايات" ـ كما يسميها الكتاب ـ المؤطرة للنصوص المقررة واحدة، والموضوعات التي تدور حولها هذه النصوص هي في الغالب واحدة كذلك (السفر، الخريف، السوق، كرة القدم، الصداقة، الرحلة، قانون السير، التعاون)، رغم كل ذلك فإن مضامينها مختلفة ومتباعدة، فضلا عن لغتها ومعجمها طبعا. ولا يتعلق الأمر هنا بالاختلاف الذي يفرضه تكييف النص مع هذا الفرع أو ذاك من الفروع الثلاثة للأمازيغية، كأسماء المدن والأسواق والشواطئ والجبال، بل هو اختلاف أساسي في المحتوى على مستوى الوقائع والأحداث والأفعال والأشخاص، وحتى الصور الموضحة والمصاحبة للنص.
رب قائل يقول: وأين المشكل إذا كانت محتويات نصوص الكتاب مختلفة؟ ألا يشكل ذلك تنوعا وغنى قد يفيدان التلميذ والأمازيغية؟ هذا صحيح لو أن التلميذ سيدرس هذه النصوص بأنواعها الثلاثة ليغتني بمضامينها المتنوعة والمتعددة. وقد افترضتُ هذا الاحتمال عندما لم أجد في الكتاب أثرا للتوحيد المتدرج، كالذي رأيناه، على علاته، في الكتاب الأول. لقد افترضتُ، في غياب المذكرات التوجيهية والتوضيحية وكتاب الأستاذ (سأعود إلى هذا الموضوع في الأخير) أن التلميذ سيتعلم مباشرة الفروع الثلاثة للأمازيغية، وسيصبح، بعد مدة من الدراسة، التواصل والتفاهم بين المتحدثين بأي فرع من الفروع الثلاثة ممكنا. وبذلك يتحقق توحيد الأمازيغية. لكن، في هذه الحالة، سيكون إثنان من النصوص الثلاثة غريبين وأجنبيين عن لغة الأم للتلميذ الذي يتحدث الأمازيغية، وحتى بالنسبة للأستاذ الذي لا يجيد إلا لهجة واحدة من اللهجات الثلاث. وبذلك نسقط في عكس ما يقوم عليه مفهوم التدرج، وهو الارتباط بلغة الأم المتداولة. وقد اضطررت إلى الاتصال بمصادر عليمة فأكّدت لي أن لكل فرع نصوصه المقررة والخاصة به والمعروفة بلون يميّزها: الأزرق أو الأخضر أو الأصفر؛ وليس هناك جمع بين هذه النصوص الثلاثة لتدرّس جميعها لنفس التلميذ.
فلو استعملت إذن نصوص متطابقة وموحدة في مضامينها على شكل ترجمات من فرع لآخر، كما جرى العمل بذلك في الكتاب الأول، لكان ذلك عملا يدخل في صميم منهجية التوحيد المتدرج للأمازيغية، لأنه يبرز أوجه الوحدة والاختلاف داخل تلك النصوص المتطابقة في محتوياتها وأسلوبها، وهو ما يسحسّس التلميذ بما تتحد فيه الفروع الثلاثة وما تختلف فيه. وهذا التحسيس بالاختلافات والائتلافات بين فروع الأمازيغية خطوة مهمة في طريق توحيد تلك الفروع والتقريب فيما بينها. بل إن هذه الطريقة، التي تعتمد على نصوص متطابقة في مضامينها وأسلوبها، قد تساعد على الانفتاح على الفرعين الآخرين للأمازيغية بالمقارنة بين النصوص الثلاثة للوقوف على الاختلافات المعجمية والنحوية والصرفية، ومعرفتها وضبطها، مما يسمح بفهم نصوص الفرعين الآخرين. إنها إذن أداة فعالة لتعلم الأمازيغية الموحدة لكل من يرغب في ذلك، وخصوصا المعلم.
وهذا ما لا تسمح به ولا تساعد عليه الطريقة التي أعدت بها نصوص الكتاب الثاني، الذي يضم نصوصا مختلفة في مضامينها، فضلا عن لغتها وأسلوبها كما قلت. وهو ما لا تمكن معه المقارنة بينها فيما يخص نقطا محددة، مثل: أدوات النفي أو الكثرة أو القلة أو أسماء الإشارة أو ظروف الزمان والمكان... إلخ، أو مفردات معينة لمعرفة مقابلها في هذا الفرع أو ذاك. فهذه الطريقة التي تقدم نصوصا مختلفة وليست متطابقة كترجمات لتلك النصوص فيما بينها، كما يظهر ذلك في الكتاب الأول، تسير في الاتجاه المعاكس divergence للتوحيد المتدرج للأمازيغية، لأنها تباعد بين الفروع الثلاثة بدل التقريب بينها بعرض أوجه الوحدة والاختلاف لإمكان معرفتها وضبطها كما سبق أن قلت.
2 ـ وقد شمل هذا الاختلاف في مضامين النصوص الاختلاف في شكل الأسئلة المصاحبة للنص كذلك: ففيما نجد الأسئلة الخاصة بنصوص تشلحيت والريف تجمع، في ما يخص عنصر الفهم armas، بين أسئلة مباشرة واختيار الأجوبة المناسبة من أجوبة مقترحة، نجد نصوص فرع الأطلس تنفرد بطرح أسئلة مباشرة حول فهم النص، مثل: xf mi msasan inlmadn?, milmi tçil twada g udrar?, max usin inlmadn tiguta nnsn? (صفحة 83 من الكتاب).
3 ـ وقد ذهب الاختلاف بين النصوص الثلاثة وطريقة تناولها إلى حد إعطاء شرحين مختلفين لنفس الكلمة، مثل كلمة amzruy (التاريخ) التي شرحت في النص "الريفي" (صفحة 11) بـ tudard n twarmatin, d min imsarn zikk (الحياة والتجارب(؟) وما جرى قديما). أما فرع الأطلس (صفحة 13) فيشرح نفس الكلمة هكذا: ussan d isgåasn nna ay izrin d ma ay ittugan digsn (الأيام والسنون الماضية وما جرى فيها). كذلك لفظة amwan (الخريف) يشرحها النص "الريفي" (صفحة 35) هكذا: imir di twïïant tfray, ittsuä dags usmmiä (الموعد (الفصل) الذي تسقط فيه الأوراق، وتهب فيه الرياح). أما نص الأطلس (صفحة 37) فيشرحها هكذا: azmz nna da ittasan dffir n unbdu (الوقت الذي يأتي بعد الصيف).
عندما نقارن إذن بين مضامين النصوص والأسئلة التي ذيلت بها وشرح المفردات الذي يرافقها، يبدو كما لو ـ أقول كما لو ـ أن هناك ثلاث لجن مستقلة ألفت كل واحدة منها النصوص الخاصة بفرع واحد من فروع الأمازيغية الثلاثة دون تنسيق ولا تشاور بين تلك اللجن الثلاث، وليس لجنة واحدة تعمل في انسجام وبمشاركة جميع الأعضاء في إعداد كل النصوص، كما يبدو ذلك من خلال قراءة الكتاب الأول. وهذا يعني أن هاجس التوحيد المتدرج للأمازيغية يكاد يكون منعدما عند مؤلفي كتاب المستوى الثاني.
4 ـ حتى الألفاظ القليلة المنتمية إلى أحد الفروع، و"المدمجة" في الشرح الخاص بفرع آخر، وظفت بشكل يجردها من كل فائدة تربوية ولغوية على مستوى الانفتاح على اللهجتين الأخريين. فما الفائدة مثلا من شرح كلمة iffulki (جميل، حسن)، الواردة بالنص "السوسي"، بلفظين من الريف والأطلس: ivuda, icna (صفحة 61)؟ أو شرح كلمة tawjja (الكرة) الواردة في نص تشلحيت بمقابلها في الريف: tcamma (صفحة 85)؟ أو شرح عبارة تشلحيت iga as aäar (ذهب على الأقدام) بعبارة من لهجة الريف irap xf iäarn (صفحة 131)؟ فالتلميذ، بهذا التوظيف السيئ لمفردات من فروع أمازيغية أخرى، لا يتعلم أية ألفاظ معجمية جديدة تنتمي إلى الفرعين الآخرين، رغم استعمال تلك الألفاظ الجديدة في المعجم الملحق بالنص. لماذا؟ أولا، لأنه عندما تشرح ألفاظ يفترض أنها معروفة لأنها تنتمي إلى لغة الأم، بألفاظ جديدة وغير معروفة مأخوذة من لهجات أخرى، فليس هناك ما يدفع التلميذ إلى الاهتمام بذلك الشرح الذي لا يقدم له أي جديد يجهله، بل قد يستغني حتى عن قراءة ذلك الشرح الذي يعرفه مسبقا. ثانيا، المعروف في الشروحات المعجمية أن الكلمة الجديدة والمجهولة تشرح بكلمة معروفة ومستعملة وليس العكس، كما رأينا في الأمثلة التي ذكرناها. فالمطلوب والمفروض، لغويا وتربويا، أن تدمج الألفاظ الجديدة، المأخوذة من الفرعين الآخرين من الأمازيغية، في صلب النص الأصلي كألفاظ جديدة لتشرح بما يقابلها من مفردات معروفة في معجم الفرع الذي ينتمي إليه النص. وهكذا كان ينبغي إدماج مثلا كلمة icna «الريفية» في النص «السوسي» كلفظ جديد غير معروف ثم يُشرح بما يقابله من لفظ «سوسي» معروف وهو iffulki، وإدماج العبارة «الريفية» irap xf iäarn في النص "السوسي" كذلك ثم شرحها بالعبارة التي تقابلها في أمازيغية تشلحيت وهي iga as aäar. بهذه الطريقة يكون هناك انفتاح حقيقي للتلميذ، انطلاقا من الفرع المقرر، على الفرعين الآخرين للأمازيغية.
اللافت أن هذه الطريقة في الانفتاح على مفردات جديدة من اللهجتين الأخريين لم يكن لها سوى حضور ضئيل جدا وفقط في نصوص تريفيت. فنجد مثلا النص "الريفي" (صفحة 126) يستعمل كلمة tadgåat (المساء) الأطلسية ثم يشرحها بـaocci (من أصل عربي) الريفية. وكذلك استعملت في نص «ريفي» (صفحة 10) كلمتا izrin (الذي مضى) و ivrm (المدينة، الدار) المتداولتان بالأطلس وسوس ثم شرحتا بكلمتي iodun و tamdint (ذات أصل عربي) المعروفتين والمتداولتين في لهجة الريف.
5 ـ في إطار هذا الجانب المعجمي، لم نجد تفسيرا لاحتفاظ نصوص الكتاب على كلمات عربية (ولو أنها ممزغة) مع وجود مقابلها الأمازيغي في اللهجتين الأخريين، مثل استعمال takurt (الكرة) في نص لفرع الأطلس (صفحة 104)، مع أن مقابله الأمازيغي موجود ومتداول في فرعي الريف وسوس ومذكور بالصفحتين 80 و 84، وهو tcamma و tawjja. بل نجد الاحتفاظ في أسئلة "ريفية" (صفحة 109) على كلمة vana التي هي gana الإسبانية التي تعني «الرغبة»، وعلى كلمات عربية في نصوص "ريفية" مثل imhlac (من هلك) بالصفحة 190، والتي تعني "المرضى"، مع أن مقابلها الأمازيغي معروف ومستعمل حتى في بعض مناطق الريف، وهو imuäan. وكذلك كلمة twqqart (وقّروا) العربية بالصفحة 172، والتي كان ينبغي تعويضها بالكلمة الأمازيغية المناسبة التي هي zrkkat (احترموا) كما يشرحها معجم محمد شفيق.
ولا يمكن الاعتراض أن استبدال تلك الكلمات "الأجنبية" سيجعلنا أمام لغة غريبة عن التلميذ ولا تمت بصلة إلى لغة الأم التي يحرص التوحيد المتدرج على الحفاظ عليها إلى حين. لكن هذا الاعتراض مردود لأن الكتاب المدرسي، وخصوصا كتاب السنة الأولى، قد استخدم معجما جديدا من المفردات والمصطلحات لا وجود لها في لغة الأم الأمازيغية، مثل الأدوات المدرسية، أسماء الفواكه والخضر، لوازم الحمام، أسماء الأيام... إلخ.
.